فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأيًا سياسيًا؛ فقالوا: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33].
الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة، وموازين رد الفعل، وأدارت بلقيس المعركة سياسيًا، فأرسلت هدية من مقام ملكة، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها، وعندما وصل رسلها بالهدية، ماذا قال سليمان؟ {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36-37].
وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن الأعلى سبحانه فلا ذلة فيه لأحد. وكان إيمان بلقيس إيمانًا ملوكيًا.
فقالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44].
إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ}. إذن فلا غضاضة في إيمانها. وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر. لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين، ولا غضاضة في ذلك: ونعود إلى قوله جل شأنه: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلًا طَيِّبًا واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
أي: اجعلوا للإيمان حيثية، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به. فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان. وقوله أولًا في الآية السابقة: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلًا طَيِّبًا واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
وقوله في تذييل هذه الآية: {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين، إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروه به. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلًا طَيِّبًا}.
في نصب {حَلاَلاَ}: ثلاثة أوجه:
أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: كُلُوا شَيْئًا حلالًا،[وعلى هذا الوجه، ففي الجَارِّ، وهو قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمْ} وجهان:
أحدهما: أنه حالٌ من {حَلاَلًا}؛ لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها، انتصبَ حالًا.
والثاني: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية في الأكْل، أي: ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة: أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف، أي: «رَزَقَكُمُوهُ» فالعاملُ فيه {رَزَقَكُمْ}.
الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: أكْلًا حلالًا، وفيه تجوُّزٌ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (89):

قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نزلت {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} كما نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما- قالوا: يا رسول الله! وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه- كما تقدم، فأنزل الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله} أي على ما له من تمام الجلال {باللغو} وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد {في أيمانكم} على أني لم أعتمد على سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى، لا لكونه سببًا، فإنه ليس كل سبب يدخل في المناسبة- كما بينته في أول غزوة أحد في آل عمران، وإنما كان السبب هنا داخلًا في مناسبة النظم، لأن تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين، والنذر في المباح- وهو مسألتنا- لا ينعقد وكفارته كفارة يمين، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها، فقسمها سبحانه إلى قسمين: مقصود وغير مقصود، فأما غير المقصود فلا اعتبار به، وأما المقصود فقسمان: حلف على ماض، وحلف على آت، فأما الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لا كفارة لها عند بعض العلماء، وسيأتي في آية الوصية، وأما الحلف على الآتي- وهو الذي يمكن التحريم به- فذكر حكمه هنا بقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم}.
ولما كان مطلق الحلف الذي منه اللغو يطلق عليه عقد لليمين، أعلم أن المؤاخذة إنما هي بتعمد القلب، وهو المراد بالكسب في الآية الأخرى، فعبر بالتفعيل في قراءة الجماعة، والمفاعلة على قراءة ابن عامر تنبيهًا على أن ذلك هو المراد من قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف فقال: {بما عقدتم الأيمان} أي بسبب توثيقها وتوكيدها وإحكامها بالجمع بين اللسان والقلب، سواء كان على أدنى الوجوه كما تشير إليه قراءة التخفيف، أو على أعلاها كما تشير إليه قراءة التشديد، فلا يحل لكم الحنث فيها إلا بالكفارة بخلاف اللغو فإنه باللسان فقط، فلا عقد فيه فضلًا عن تعقيد، و«ما» مصدرية.
ولما أثبت المؤاخذة سبب عنها قوله: {فكفارته} أي الأمر الذي يستر النكث والحنث عن هذا التعقيد، ويزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم {إطعام عشرة مساكين} أي أحرار مساكين، لكل مسكين ربع صاع، وهو مدمن طعام، وهو رطل وثلث {من أوسط ما} كان عادة لكم أنكم {تطعمون أهليكم} أي من أعدله في الجودة والقدر كمية وكيفية، فهو مد جيد من غالب القوت، سواء كان من الحنطة أو من التمر أو غيرهما.
ولما بدأ بأقل ما يكفي تخفيفًا ورحمة، عطف على الإطعام ترقيًا قوله: {أو كسوتهم} أي بثوب يغطي العورة من قميص أو إزار أو غيرهما مما يطلق عليه اسم الكسوة {أو تحرير} أي إعتاق {رقبة} أي مؤمنة سليمة عما يخل بالعمل- كما تقدم في كفارة القتل- حملًا لمطلق الكفارات على ذلك المقيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما استأذنه أحد في إعتاق رقبة في كفارة إلا اختبر إيمانها، هذا ما على المكلف على سبيل التخيير من غير تعيين.
والتعيين إليه إذا كان واجدًا للثلاثة أو لأحدها، والإتيان بأحدها مبرئ من العهدة، لأن كل واحد من الثلاثة بعينه أخص من أحدها على الإبهام، والإتيان بالخاص يستلزم الإتيان بالعام {فمن لم يجد} أي واحدًا منها فاضلًا عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته {فصيام} أي فالكفارة صيام {ثلاثة أيام} ولو متفرقة.
ولما تم ذلك. أكده في النفوس وقرره بقوله: {ذلك} أي الأمر العدل الحسن الذي ذكر {كفارة أيمانكم} أي المعقدة {إذا حلفتم} وأردتم نكثها سواء كان ذلك قبل الحنث أو بعده.
ولما كان التقدير: فافعلوا ما قدرتم عليه منه، عطف عليه لئلا تمتهن الأيمان لسهولة الكفارة قوله: {واحفظوا أيمانكم} أي فلا تحلفوا ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، فإنه سبحانه عظيم، ومن أكثر الحلف وقع في المحذور ولا بد، وإذا حلفتم فلا تحنثوا دون تكفير، ويجوز للمكفر الجمع بين هذه الخصال كلها واستشكل، وحلُّه بما قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في التلويح في بحث أو: والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمنتع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة، لكن الفرق هاهنا أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد وفي التخيير يجب، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر وثبت الجواز بعارض الأمر- كما إذا قال: بع من عبيدي هذا أو ذاك- يمتنع الجمع ويجب الاقتصار على الواحد.
لأنه المأمور به.
وإن كان الأصل فيه الإباحة ووجب بالأمر واحد- كما في خصال الكفارة- يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة- انتهى.
ولما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل: هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله: {كذلك} أي مثل هذا البيان العظيم الشأن {يبين الله} أي على ما له من العظمة {لكم آياته} أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه.
ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة: {لعلكم تشكرون} أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية. اهـ. بتصرف يسير.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثاني: من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم}.
قد ذكرنا أنه تعالى بيّن في هذا الموضع أنواعًا من الشرائع والأحكام.
بقي أن يقال: أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه؟ فنقول: قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قومًا من الصحابة حرّموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}.
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام، كأنْ يقول: والله لا آكل كذا، أو تجري بسبب غضب.
وقيل: إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم {عَقَّدتُّمُ} بتشديد القاف بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {عَقَّدتُّمُ} بتخفيف القاف بغير ألف، وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف.
قال الواحدي: يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقدًا إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضًا عقد بالتشديد إذا وكد، ومثله أيضًا عاقد بالألف.
إذا عرفت هذا فنقول: أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير، يقال: عقد زيد يمينه، وعقدوا أيمانهم، وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر.
وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين: الأول: أن بعضهم قال: عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى.
الثاني: هب أنها تفيد التكرير كما في قوله: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23] إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقدًا، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف. اهـ.